كتب كل من إليز بيكر وأحمد حلمي في مستهل هذا التحليل أن أفق العدالة لضحايا انتهاكات نظام بشار الأسد بقي لسنوات محدودًا للغاية، واقتصر على محاكمات الاختصاص القضائي العالمي في أوروبا ضد فاعلين من الصفين الأدنى والمتوسط، إلى جانب عقوبات على شخصيات مرتبطة بالنظام، بينما واصلت هيئات الأمم المتحدة إصدار التقارير وتوثيق الجرائم دون قدرة على الوصول إلى الداخل السوري. واصلت منظمات المجتمع المدني السورية العمل على ملفات العدالة الانتقالية تحسبًا لأي تحوّل سياسي قد يفتح الباب للمحاسبة.

 

يشير المقال المنشور عن أتلانتيك كآونسل إلى أن المشهد انقلب رأسًا على عقب يوم 8 ديسمبر 2024، حين فرّ الأسد إلى روسيا مع تقدّم قوات المعارضة نحو دمشق، وحرّرت مئات المعتقلين السياسيين من سجن صيدنايا وغيره من مراكز الاحتجاز سيئة السمعة، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ العدالة السورية، مرحلة تحمل أملًا واسعًا لكنها محاطة بتحديات ثقيلة وتعقيدات سياسية وأمنية واقعية.

 

تطورات العدالة داخل سوريا بعد سقوط الأسد

 

بدأت سوريا خلال العام الماضي بناء هيكل وطني للعدالة الانتقالية. أصدر الرئيس الانتقالي أحمد الشرع في مايو المرسوم رقم 20، وأنشأ بموجبه الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية باستقلال مالي وإداري. عُيّن أعضاؤها لاحقًا وبدأوا لقاءات مع منظمات المجتمع المدني وسوريين من الداخل والشتات، إضافة إلى مسؤولين دوليين وخبراء من دول شهدت نزاعات مشابهة. بقي الغموض قائمًا حول اللوائح الداخلية للهيئة ونطاق ولايتها، لا سيما مع حصر عملها بانتهاكات نظام الأسد فقط واستبعاد جرائم أطراف أخرى أو تجاوزات وقعت بعد 8 ديسمبر 2024.

 

باشرت وزارة العدل تحقيقات في ملفات مرتبطة بمحكمة مكافحة الإرهاب التابعة للعهد السابق. فتح التحقيق مع قضاة أشرفوا على آلاف المحاكمات الصورية التي صنّفت أنشطة إنسانية وطبية باعتبارها “أعمالًا إرهابية”. طلبت الوزارة شكاوى مباشرة من المواطنين، وسعت وفق تقارير إعلامية إلى استرداد مسؤولين سابقين فرّوا إلى لبنان بعد انهيار النظام.
أنشأت الحكومة لجان تحقيق في أحداث عنف طائفي وقعت في الساحل السوري والسويداء. ورغم الانتقادات التي طالت شفافية بعض هذه اللجان، ظهرت أول محاكمة علنية منذ عقود بحق متورطين في أعمال العنف في المناطق الساحلية.

 

تحركات قضائية خارج سوريا لدعم المساءلة

 

تقدّمت قضايا العدالة أيضًا على الساحة الدولية. واصلت دول أوروبية ملاحقة ملفات الاختصاص القضائي العالمي، خاصة بعد توقيفات شهدتها ألمانيا والسويد بحق متهمين بارتكاب انتهاكات في مخيم اليرموك جنوب دمشق. حدّدت الولايات المتحدة موعدًا لمحاكمة مسؤول سابق في نظام الأسد عام 2026 على خلفية تهم تتعلق بالتعذيب وجرائم الحرب. أعادت فرنسا إصدار مذكرة توقيف بحق الأسد بسبب الهجمات الكيميائية على غوطة دمشق، كما تحركت ملفات جديدة تطال شركات أجنبية بتهمة دعم عمليات عسكرية استهدفت المدنيين عبر تزويد الوقود المستخدم في الطائرات الروسية.

 

أطلقت دول أخرى مذكرات توقيف بحق شخصيات رفيعة في أجهزة الأمن والعسكر، بينهم مهندسو منظومة الاعتقال والتعذيب، وسعت فرنسا إلى استرداد مسؤولين أدانتهم محاكمها غيابيًا، بينما وُجهت اتهامات رسمية في النمسا ضد ضابط سابق وصل إلى أوروبا بدعم استخباراتي.

 

ما الذي يحتاجه العام القادم لتعزيز العدالة؟

 

يرى الكاتبان أن التقدم الحاصل خلال عام واحد كان غير متخيّل سابقًا، لكن مسار العدالة لا يزال في بدايته الفعلية. تبرز الحاجة إلى قيادة تضع الضحايا في قلب العملية الانتقالية، وتمنح الناجين والمدافعين عن حقوق الإنسان دورًا حقيقيًا في صنع القرار، لا مجرد حضور رمزي في المناصب. يتطلب الأمر إصلاحًا جذريًا للمؤسسات القضائية التي تورطت سابقًا في القمع، وتحديث التشريعات لإلغاء التهم الفضفاضة التي استُخدمت ضد المعارضين، وتجريم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والاختفاء القسري والتعذيب بما يتماشى مع القانون الدولي، إلى جانب ضمان حماية الشهود والضحايا وإلغاء عقوبة الإعدام.

 

يحتاج البرلمان الجديد إلى سنّ قانون شامل يسمح بملاحقة جميع المرتكبين بغضّ النظر عن انتماءاتهم، ويغطي أركان العدالة الانتقالية كاملة. يوصي المقال بفتح الأبواب أمام خبرات دولية متخصصة للمساعدة في إعادة بناء الجهاز القضائي، وتطوير آليات التوثيق وجمع الأدلة، مع ضمان وصول منظمات الضحايا والمجتمع المدني إلى السجون وقاعات المحاكم لمراقبة الأداء وتعزيز الشفافية.

 

يؤكد التحليل أن دعم المجتمع الدولي سيبقى عنصرًا حاسمًا. ينبغي استمرار المحاكمات خارج سوريا لمنع إفلات من فرّوا من العقاب، وتقديم دعم مالي وفني للسلطات الانتقالية، وممارسة ضغط بنّاء عند تعثر الإصلاحات، مع مساندة مبادرات الضحايا والمنظمات الحقوقية التي عملت لسنوات في ظروف شديدة الخطورة.

 

بعد أكثر من نصف قرن من حكم عائلة الأسد، تبدو مهمة تحقيق العدالة كفتح مدينة تحت أنقاض عميقة. الطريق طويل، لكنه صار أخيرًا مرئيًا. تعاون الدولة والمجتمع المدني والداعمين الدوليين قد يحوّل هذا الاحتمال إلى حقيقة، ويمنح السوريين بداية مختلفة عنوانها الكرامة والمحاسبة بدل الإفلات والنسيان.

 

https://www.atlanticcouncil.org/blogs/menasource/one-year-after-assads-fall-heres-whats-needed-to-advance-justice-for-syrians/